الأربعاء، 15 أبريل 2015

تأملات في خطبة السيدة زينب عليها السلام


تأملات في خطبة السيدة زينب عليها السلام [1]
                                                          بقلم علي بن سلمان العجمي

 

نشأت السيدة زينب عليها السلام ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ﴾ [2] ولذا فلم يكن عجباً أن تكون طينتها معجونةً بالمفاهيم النبوية والتي برزت بشكلٍ جلي عقب ثورة كربلاء عبر الدور الذي أنيطت به في اكمال وهج ثورة عاشوراء وتخليد ذكرى الحسين عليه السلام. وفي هذه المقالة نحاول أن نتصفح عظمة العقيلة زينب عليها السلام لا من منظار تتبع سيرتها وإنما من خلال الخطبة التي خطبتها في أهل الكوفة بعد شهادة سيد الشهداء عليه السلام. وفي تتبعنا هذا نقفُ على المحطات التالية:

1-المحطةُ الأولى: السيدة زينب (ع) انعكاسٌ لأمير المؤمنين عليه السلام:

رغم عدم وجود توثيقٍ حقيقي لراوي الخطبة في كتاب الملهوف [3] الا أنه يظهر أنه ممن عاصر أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة وعاصر ابنته السيدة زينب عليه السلام فيما بعد وهي تدخل سبيةً الى الكوفة، لتوصيفه لها بالقول: "لم أر والله خفرة قط أنطق منها، كأنها تنطق وتفرغ على لسان علي عليه السلام"، فالتشبيه ناشئٌ من إدراك الامام علي عليه السلام والسيدة زينب عليها السلام والمثيرُ في هذا البيان جمعُ أمرين: حياء الخفرة وهي لفظةٌ تطلق على المرأة اذا اشتد حيائها، والأمر الآخر هو نطقها البليغ لدرجةِ أن الراوي شبَّه نطقها بنطقِ أمير البلاغاء والمتكلمين أمير المؤمنين عليه السلام. ويزدادُ أهمية الوصفِ قيمةً إذا أعتمدنا نسخةَ الخطبة الواردة في كتاب بلاغات النساء حيث أن الراوي المباشر لها هو الامام علي بن الحسين عليه السلام، وهنا يكتسب الوصف قيمةً أكبر لأنهُ صادرٌ عن إمام معصوم، وشهادته شهادةٌ لا لبس فيها أبدا.

2- المحطة الثانية: السيدة زينب (ع) والهيمنة على المكان:

يستظهر من الخطبة أنها وقعت في مكانٍ مفتوحٍ في الكوفة بقرينة استشراف نساء أهل الكوفة للسبايا من سطوح منازلهن، وبقرينةِ بكاء نساء أهل الكوفة وبقرينة أن الظاهر أن السيدة زينب عليها السلام خطبت في مكانٍ عام، كان يجمع من استحق تقريع السيدة زينب عليها السلام. ورغم أن الجو السائد أن تكون الهمهمات والأحاديث الجانبية وأصوات المحامل هي المهيمنةُ على هكذا جو، إلاَّ أن السيدة زينب عليها السلام كانت لها القدرة للسيطرة على الجو وقسرهم على سماع خطبتها بنحوٍ جعلت الكل يصغي، فنلحظ قول الراوي "وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس" حيث امتد السكون حتى الأجراس المعلقة على المحامل. ونجد شبيهَ هذا الفعل في خطبة الزهراء عليها السلام المعروفة بالفدكية من حيث السيطرة على الجو العام حيث ينقل الراوي أن الزهراء عليها السلام "جلست ثم أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء، فارتج المجلس، ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم" [4]

 

3-المحطة الثالثة: السيدة زينب (ع) مرآةٌ للنطق القرآني:

يلحظُ على خطبة السيدة زينب عليها السلام كثرة الاقتباس من الآيات الكريمة، حيث كان لهذا التوظيف دلالته على تعميق الفكرة وبيان حقيقة جريمة أهل الكوفة، ومن هذه الموارد القرآنية:

أ‌.       تشبيه أهل الكوفة بالتي نقضت غزلها بعد قوة بالقول : "إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم" وهو مصداقٌ لقوله تعالى ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ  إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [5] ، وقد وصفتهم بذلك إشارةً الى صفةٍ ذميمةٍ في أهل الكوفة الا وهي صفة نقض العهود.

ب‌.  حديثها عن عاقبة قتل الحسين عليه السلام حيث قالت "ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون" وهو انعكاسٌ لقوله تعالى ﴿لبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ [6] ، وهي بذلك تشير الى أن قتل الحسين عليه السلام موجبٌ لسخط الله والخلد في النار.

ج‌.    حديثها أن فرحتهم بجريمتهم قصيرة الأمد حيث قالت "إي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً" وهو توظيفٌ لقوله تعالى ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً﴾ [7] فلم تدم فرحتهم في الدنيا فقد ابتلوا بأنواع البلاءات قبل أن تستأصلهم الثورات التي هبت للثأر بدم الحسين عليه السلام كثورة التوابين وثورة المختار. وهنالكَ وجهٌ آخر محتمل في خطبتها عليه السلام حيث يحتمل أنها كانت تشير الى أن هذه الجرم الذي أنستم به قليلاً في الدنيا، لن يكون ذا قيمةٍ قبال الحسرة في يوم القيامة وفي خلدكم في النار.

د‌.      تأكيد معنى أن قتل الحسين عليه السلام موجبٌ لسخط الله ولضرب الذلة والمسكنة عليهم، حيث قالت "وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة"، وهو انعكاسٌ لقوله تعالى ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾ [8]. والاية وان كان المقصودُ بها اليهود الا أنها ناظرة لعاقبة التعرض لحرم الله ولأولياءه وهو جرمٌ اشترك فيه اليهود وأهل الكوفة.

هـ. الوعيد باليوم الآخر وأن ما رآه أهل الكوفة من جزاء ليس الا جزءاً يسيراً من العقاب المعد لهم حيث قالت "أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى ، وأنتم لا تُنصَرون" وهو تجلٍ  لقوله تعالى: ﴿ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [9]

 

ز‌.     تأكيد أن ما جرى هو بعين الله وهو المنتقم وان غرهم المهل "فلا يَستَخفّنكم المُهَل ، فإنّه لا يَحفِزُه البِدار ولا يَخافُ فَوتَ الثار ، وإنّ ربّكم لبالمرصاد" وهو تسليم لحقيقة قرآنية مفادها ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [10]

 

ح‌.    ويوجد تضمينٌ قرآني في نسخة الخطبة الواردة في كتاب بلاغات النساء، وهي إشارة لعظيم جرمهم وما اقترفته أيديهم، حيث استشهدت بقوله تعالى ﴿ لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ﴾ [11] ورغم أن الاية ناظرةٌ الى دعوى وجود ولدٍ لله تعالى الله عما يصفون إلا أن استشهاد السيدة زينب عليها السلام بالاية فيه إشارةٌ الى أنَّ قتل سبط رسول الله صلى الله عليه وآله لا يقلُّ خطره عن هذا الادعاء. 

4-المحطة الرابعه: السيدة زينب (ع) وبلاغتها :

إنّ المتأمل في خطبة السيدة زينب عليها السلام لتسوقفهُ كثيراً من المحطات البلاغية والاستعارات والتشابيه التي تزخر الخطبة بها، فتجدها توصف أهل الكوفة بأوصافٍ هي غايةٌ في التقريع كقولها أن حقيقتهم هي أنهم لا يجمعون إلا (لصلف النطف،  والصدر الشنف،  وملق الإماء،  وغمز الأعداء ) وتحقِّرُ قيمتهم بتشبيههم بأنهم (كمرعى على دمنة أو كفضة على ملحودة ) وهي ترى أن جريمتهم لا يمكن محو عارها قائلةً  (فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً) فحقيقة جريمتهم أنها (صَلعاء عَنقاء سَوداء فَقماء ، خَرقاء شَوهاء ، كطِلاع الأرض وملء السماء) وهي جريمة لا يُعجب معها (أن مطرت السماء دماً).

 

-------

[1] رغم ورود الخطبة في أكثر من مصدر كالاحتجاج للشيخ الطبرسي ج 2 ص 29 ، و بلاغات النساء لابن طيفور ص 74 و غيرها الا أننا اعتمدنا النسخة الواردة في كتاب الملهوف على قتلى الطفوف للسيد ابن طاووس ص 192 في هذه القراءة.

[2] سورة النور الآية 36 وقد روي في تفسير الآية عن ابن عباس قال: كنت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وقد قرأ القاري الآية ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾، فقلت: يا رسول الله ما البيوت ؟ فقال: بيوت الأنبياء، وأومأ بيده إلى منزل فاطمة عليها السلام) وللمزيد يرجع الى الجزء الثالث من كتاب غاية المرام للسيد هاشم البحراني.

[3] في تحقيق كتاب الملهوف، يورد الشيخ فارس الحسون التالي: "بشير بن خزيم الاسدي: في مستدركات علم الرجال 2 | 37: بشير بن جزيم الأسدي، لم يذكروه،وهو راوي خطبة مولاتنا زينب عليها السلام بالكوفة".

[4] الاحتجاج للشيخ الطبرسي ج 1 ص 132

[5] الاية 92 من سورة النحل

[6] الاية 80 من سورة المائدة

[7] الاية 82 من سورة التوبة

[8] الاية 61 من سورة البقرة

[9] الاية 16 من سورة فصلت.

[10] الاية 14 من سورة الفجر.

[11] الاية 89 و 90 من سورة مريم.