الأحد، 20 ديسمبر 2009

قصيدة يتيمك


قصيدة : يَتيمُــكَ
بقلم / علي بن سلمان العجمي (أبو كرار)


في كربلاء الحسين (عليه السلام)، لا هوية الا الدم، ولا ابا الا الحسين عليه السلام، ولا يتم الا فقد الدين في السادات، كما قلتُ في قصيدةٍ سابقه..



امسح بــرأَسي مَسحَــةَ الرُحَمَـــاءِ
فأَنا يَتِيـــــمُكَ والعَـــزاءُ عَــزائي
واجعـــل دموعي في رثـاكَ غــزيرةً
تجري بكــلِّ صبيحــــةٍ ومســـاءِ


******

خُـذنِي وَجَـدِّد (كَربَـــلا) بِـمَـدَامِعي
لأُشَـــــاركَ السَبـعَ العُلى بِبِكَـــائِي

خُـذني أُرَوي أَكبُــداً ظَمـئَى بِهــــا
قَـــــد رُوِّيَـت بِشفا القنا لا المَـــاءِ

خُـذني لحَيــثُ تَـلاحَقَت أَرواحُـــكم
و (المــــوتُ) يــلـــحقكُم بلا استحياءِ

فأظلـــكُم جَيشٌ كَـــــرملٍ بالفـلا
مِن مَعشَـــرِ الفُسَّـــاقِ والطُلـــقاءِ

نَسَجُـــوا (لِدُنيَاهُـم) ثِيَـابَ هَـــوانِهم
ونَسَجتُــمُ (للـدينِ) خَيـــــــرَ رِدَاءِ

تَاللهِ لا أَنسَــــاكَ فِيـهم هــــاتفاً
(يا قَــومُ أَينَ عُهــودَكُم بوفـــائي؟!)

(أَولَــــم يُوَصِّي بِنَا الرسولُ فَمَــالَكُم
قَــد مِـلتُمُ (للطِخيَـــةِ العَمــيَاءِ؟!))

فأتى الجـــوابُ (بـأسهــُمٍ) في جوفها
تغلي بغــلِّ سقيــــــــــــفةٍ بغضـــاء

فقضت جمـــوعُ المـــارقينَ ديونها
من آل أحمــــد خيــرةِ النجبـــاءِ

******


امسح بــرأَسي مَسحَــةَ الرُحَمَـــاءِ
فأَنا يَتِيـــــمُكَ والعَـــزاءُ عَــزائي
واجعـــل دموعي في رثـاكَ غــزيرةً
تجري بكــلِّ صبيحــــةٍ ومســـاء
ِ

******


خُذني الى حيـثُ الجســـومُ تَـقطعـََت
وَجِراحُهُا غـــــاصت الى الأحشـــاءِ

وتوزعت فوق الهجيــــرِ فلا تــرى
أثـــــــراً يُمَيـــزُها عن الهَيجـاءِ

فَغـــدوتَ تَعرِفُــهم بِعَـدِّ طعـــانهم
وبقَطعـــــةِ الأوداجِ والأعضــــاءِ

فهُنَـــــــاك لاحَ (البـدرُ) دونَ كُفوفه
والعينُ غارت في بُحُــــورِ دمــــاءِ

وهناك (شبهُ المصطفى) قــــد وُزِّعَـت
أَشلاؤُهُ بــالسيفِ في الأرجـــــــاءِ

وهناكَ (قــاسمُ) مشــــرقاً بجبينـه
متخضبـــــاً بالـــدمِّ لا الحنـــاءِ

وهناكَ (أصحابٌ) تــهاووا في الفـــداء
فتخـــالُهم (مَـطراً) مـن الشهـــداءِ

وهنــاك جُثَّةُ (والـــــــدٍ ورَضِيعَهُ)
وجِــراحُهُ جَلَّـــت عن الاحصــــاءِ

قد عالـــجَ السَـهمُ المثلثُ شَوقَـــهُ
فأصــــابَ قلــب المصطفى بالــداءِ


******


امسح بــرأَسي مَسحَــةَ الرُحَمَـــاءِ
فأَنا يَتِيـــــمُكَ والعَـــزاءُ عَــزائي
واجعـــل دموعي في رثـاكَ غــزيرةً
تجري بكــلِّ صبيحــــةٍ ومســـاءِ


******


خُــذني لحيثُ خيـامكم قــد اسجرت
فَبَــدَت (فواطمـــكم) لعيـــنِ الرائي

يتنــــاوبــــون لنَهبِـهِنَّ كَأَنَما
ذِئـــبٌ تَسلَــط في قَطيــــعِ جداءِ

فتـــصيـــحُ (واذلاهُ) زينبُ بعدكم
سيطــــولُ بعـدكَ يـا أخي شقـــائي

تَشكُـوا لــواعِجَهـا فَيَضرِبُ مـتنهـا
متذممــاً رجــــسٌ مــــن الأعداءِ

فتهيمُ في وجه الصعيد فـــــلا ترى
الا اللــــذي قــــد حزَّ في الأحشاء

وترى المحــــامي في التـرابِ معفراً
هـــذا لعمــــري أَعظـــمُ الأرزاءِ

فتقولُ عاتبـــةً كـــأن عتـــابها
يُحيي المــــوات كدعـــوةِ استسقاءٍ

أترى يهونُ على (كفيلي) أن يــــرى
ســـبيي وتسييــري الى الطلقــــاءِ

قــد كان في بَيتِ الرسُــولِ تخـدري
واليـومَ (ظـــهرُ الظــــالعاتِ) خبائي



الاثنين، 14 ديسمبر 2009

قصاصات من الذاكره من حج بيت الله الحرام لعام 1430 هـ










بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم



تراودني فكرة الحج منذ فترة طويله، ولكن في هذا العام اجتمعت المراوده مع الاستطاعه والعزيمه فعقدت العزم لحج بيت الله الحرام، فكان ان حضيت بالتوفيق من الله عزوجل، وفي هذه القصاصه من الذاكره استعرض محطات هذه الرحلة العظيمه.



المحطة الاولى: فكرة وعزم:-


لم أطل التفكير في اختيار الحملة التي سأتوجهُ بها الى حج بيت الله الحرام، فسمعة "حملة الأنوار" بادارة الشيخ حسين العجمي تملك من الصيت ما شجعني ان اقصدها دون سواها، لا سيما وأن الاخ والصديق الغالي سعيد الرواحي من كوادرها ما زاد تشجعي للالتحاق بها. يتميزُ الشيخ حسين بطيبة غير عاديه وأخلاق رفيعه وابتسامةٍ مميزه كفيله بدفن أي موجة غضبٍ أو انفعال في وجهه، أي أنك وببساطه، لا يمكنك أن تنفعل أمامه فابتسامته وسعة صدره كفيله باحتواء المواقف المتشنجه، كما انه ليس من الناس الذين يكترثون للعائد المادي كما تفعل بقية الحملات وهذا ما لمسته شخصياً في الاسعار المقدمه و"خفايا خلف الكواليس لا يعرفها الكثير من الاخوه عن حملة الانوار". كذلك يمتاز كوادر الحمله بالتفاني في خدمة الحجاج بل لا ابالغُ ان قلتُ بأنهم يرون سعادتهم في خدمة الحجاج.



عقدتُ وزوجتي العزم وشاركني أخي عبدالامير وزوجته في الانظمام لحملة الانوار، وقمنا باجراء الفحوصات الطبيه اللازمه بما اشتمل عليه من أخذ لقاحات انفلونزا "الخنزير المزكوم"و "الانفلونزا الموسميه" و"لقاح الحمى الشوكيه". ولا ارى أنها قد أتت أكلها فلم البث في المدينة أمداً حتى أصبت بالانفلونزا كما سيأتي لاحقاً. فوجئت ظهر الثلاثاء (قبل اسبوع من انطلاق الرحله) باتصال من أخي محمد يخبرني بأنه قد عزم على الحج ولكنه يحتاج لاتمام بعض الاجراءات الاداريه وطلب مني ان أتصل بسعيد الرواحي بغرض حجز بطاقة للحج وقد جرت مقادير الامور على ما يرام وانضمت الى جمعنا والدتي -حفظها الله ورعاها- فكانت جمعةً لطيفه، اجتمع فيها أفرادُ اسرتي.


المحطه الثانيه: قبيل الرحيل:

لا ادري ان كنتُ قد أمضيتُ وقتاً طويلاً في التسوق لهذه الرحله، بل لم اشتري احراماً من عمان كما فعل بعض من كان معنا في الحمله، ولم يكن في بالي سوى فكرة أننا سنتغيب عن كرار - ولدي الذي لم يكمل عامه الثاني بعد - لمدة تقارب ال 15 يوماً. "أولادنا فلذاتُ أكبادنا"، ومن الصعب مفارقتهم، الا أن الهدف من الرحله كان أعظم من هذا الفراق.

أنصبت استعداداتي للحج في شقين:


الاول: سماع محاضرات روحيه عن الحج، كان ابرزُ محاضرٍ فيها سماحة الشيخ المربي حبيب الكاظمي.

الثاني: مطالعة الكتابات الفقهيه التي تتحدث عن مناسك الحج والاحكام الفقهيه المرتبطه به، فكان ان عثرتُ في موقع السراج على كتابين قيمية بصيغة PDF هما : كتاب المختصر الميسر في الحج والعمره للسيد عبدالهادي الحكيم والذي جمعه وفق اراء سماحة المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني دام ظله الوارف وكتاب منتقى مسائل الحج والعمره - جمع الشيخ هاني البنا وفيه استعراض لاراء مراجع التقليد من الاحياء حول المسائل المستحدثه المختلفه في الحج والعمره. ولم انسى بالتأكيد ان اقوم بتحميل محاضرات الشيخ هاني البنا الصوتيه في شرح مذكرته التي قاربت ال200 صفحه. قمت بطباعة الكتابين في مكتبة شمس الولايه بصحم وقمت بعمل نسخ اضافيه اهديتها لبعض الاهل والاصدقاء، وباشرتُ بمهمة القراءه.


المحطه الثالثه: الطريقُ الى الحج العظيم:


لم تؤهلني ميزانيتي لأن اذهب في طائره، فكان الذهاب في الباص، والذي لا يخلو من الشقه والتعب في الطريق مهما كانت الباصات مريحه ومكيفه، ولكن أن يتكور جسمك ويتقوقع في مساحة لا تتجاوز السنتمترات لاكثر من يوم لهو امرٌ متعبٌ للجسم، ولكن تسليتي كانت في عبارة "الجزاء على قدر المشقه". طبعتُ ما امكنني من قبلات على وجه كرار قبل ان اركب الباص وانطلقنا في يوم الثلاثاء 17 نوفمبر 2009 ميلاديه ووصلنا المركز الحدودي للسلطنه عند الظهيره فكان ان صلينا في المركز وأجلت الغداء قليلاً حتى دخلنا الامارات حيثُ لم نتأخر كثيراً في المركز، انطلقنا بعدها الى السعوديه.



أنطلقنا من الحدود باتجاه مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيثُ أنها كانت قبلتنا الاولى في بلاد الحرمين، ولكن قبل ذلك اندفنا في الصحاري السعوديه التي كانت بين المحطتين. وصلنا المدينة المنوره في مساء الاربعاء وكانت الساعه تشيرُ الى الثامنه مساءاً، وكان في انتظارنا الشيخ حسين بابتسامته العريضه التي غطت على بقية تقاسيم وجهه مع مجموعه من كوادر الحمله ممن تقدم الحمله للتهيؤ لاستقبال الفوج القادم من حجاج بيت الله الحرام.


المحطه الرابعه: المدينة المنوره:


أوتدت الحمله خيامها "الفندقيه" قرب الحرم النبوي الشريف وكان ذلك في فندق الاشراق المجاور لاسواق الحرم الملاصقه للحرم الشريف. وقد أعدت الحمله منشوراتها - اضافة الى الكتيبات التي تم توزيعها على كل الحجاج قبل السفر- ولكن ما لفت نظري رواية الشبلي مع الامام السجاد عليه السلام فهي بحق روايه عظيمه لانها تعلم كل حاج ان للحج ابعاد باطنيه ومعنويه عليه أن لا يغفل عنها منشغلاً بالمناسك الظاهريه، فالحج مدرسة للروح لا البدن.

فور وصولنا الى المدينة المنوره، انطلقت الدروس الفقهيه والتي كان يلقيها الشيخ ابراهيم حمد نجف العجمي من ولاية الخابوره، وقد كان يستعين بالتقنيه الالكترونيه لكي تصل المعلومه وترسخ أكثر. توزعت المحاضرات الدينيه في درسين صباحي (الساعه 11 صباحاً) ومسائي (الساعه التاسعه مساءًا)، وقد كان الشرحُ وافياً وكافياً.

تتميز المدينة المنوره، بهدوءٍ نسبي ونظافه عاليه مقارنةً بمكه المكرمه، الا أن أكثر ما ضايقني وجود بعض المتشددين الدينين وعلى الخصوص المنتشرين في مقبرة البقيع وقبر الحمزه عليه السلام بأحد. كنتُ أسعى أن الا أخوض في أي سجالات أو نقاشاتٍ حفاظاً على حرمة المكان الا أن المء لا يتمالك نفسهُ أحياناً وهو يسمع عبارات "الشرك" و"الكفر" تتطاير يمنة ويسره كسلاح كلاشينكوف في يد طائش يطير ذخيرتهُ يمنة ويسره.

أذكرُ أني استوقفتُ أحدهم مره وقلتُ له: "مالكم توزعون عبارات الشرك يمنة ويسره .. هل هي بهذه المجانية لتوزعونها على من تروه؟؟ ... دعوا كل مسلمٍ وعقيدته .. فلا اكراه في الدين .."

فقال لي: "الا ترى ما يقولون في كتيباتهم؟؟!"

قلتُ: وما يقولون؟


فوجدتُ انه يستشكل على بعض مقاطع الزياره واستخدام عبارة "عبدكم" في مخاطبة أئمة البقيع؟!


فقلتُ له: وما المشكل في ذلك، أتراك تستشكل على عبارة "عبدكم" .. ان كان كذلك فالقران ينقل عن لسان نبي الله يوسف عليه السلام قوله "( وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ، فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ، فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ) سورة يوسف/42 . وقد استخدم عبارة الرب، ولكن ذلك لا يعني ان من يقول عبدك يقصد العبوديه بكونه اله، والعربيه حافله بمعاني عبد فلما يزجُ بها في هذا الجانب فقط"

فوجم الرجل وحاول ان يحور النقاش، فتجنبت الاسترسال لاني عرفت ان الموضوع سيتحول الى سجال غير علمي ومراء، وأنا في غنى عن ذلك، ولكني قصدت شيخاً سلفياً غيره وخاطبته بكل هدوء بأن امتنا الاسلاميه الممزقه في غنى عن التكفير ورمي الناس بالشرك واننا أحوج ما نكون لرص الصفوف.

واستوقفني آخر، مستنكراً البناء على القبور وانه من اكبر البدع، فقلتُ له : قبر الشيخ زايد في الشقيقة الامارات المتحده مبني، فهل هم أصحاب بدع؟

قال: انا أتحدث عن المملكه لا غيرها من الدول؟

فقلت: حسنا التفت على يمينك لترى قبر رسول الله مشيداً، فاما ان بناءه بدعه وانتم تسمحون بها او ان بناءه لا اشكال فيه. الاعجب انهم بذلك يستهدفون المقدسات ليسووا بها الارض وكانهم يقصدون سلب هذه الاماكن المقدسه من رمزيتها في قلوب المسلمين متغاقلين عن نصوص قرانيه تحدثت عن بناء المساجد على قبور الاولياء كما حدث في قصة أصحاب الكهف، يقول تعالى:
( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا )

وتبقى لكل مسلمٍ عقيدته التي يعتقد بها دون ان يفرض عقيدته على الآخرين. على كلٍ، كانت المدينة المنوره محطةً جميلةً جداً وكانت الانفاس الروحانيه تفوح في جنباتها كنسيمٍ هادئ ليدغدغد المشاعر والارواح. وبدأنا الاعداد للمباشره بأعمال الحج بعد أن انهينا مراسيم الزياره.


المحطه الخامسه: مكة المكرمه:



يتحتم على كلِّ داخل الى مكة المكرمه ان يدخلها محرماً، ولكلٍ ميقاته، فلأهل الشام ميقات ولأهل العراق ميقات ولاهل المدينة ميقات وهكذا. والميقات هو المكان الذي يحرم الحاج او المعتمر الى مكه، ولأننا قصدنا المدينة أولاً فقد كان ميقاتنا ميقات مسجد الشجره، وهو قريبٌ من المدينه ويبعد عن مكه حوالي الاربعمائة كيلومتر. أدينا صلاة المغرب والعشاء في مسجد الميقات ثم شرعنا في النية والتلبيه وكم كان منظرُ البياض جميلاً في الميقات. يتوشح المسلم بثلاثة أقمشة بيضاء في حياته : قماطه الابيض، ولباس الاحرام، وكفنه الابيض، وكأنما مراحل حياته تختصرُ في هذه القطع من البياض.



وصلنا مكة المكرمه ليلاً وجلسنا نستريحُ لبرهه في العزيزية ثم توجهنا الى البيت الحرام لنؤدي مناسك عمرة التمتع. لم نرى أثراً للازدحام في ذلك اليوم ومرت مناسك العمره دون اي متاعبٍ تذكر. وكانت روحانيةُ المكان تخيم علينا خصوصاً واننا كنا نترنم بمقاطع لادعية عظيمة القدر لأئمة أهل البيت عليهم السلام كدعاء كميل وأدعية الصحيفة السجاديه للامام علي بن الحسين عليهما السلام. ما أجملهُ من شعور وان ترى الدموع تسبعُ في أعين الحجاج والمعتمرين ترتجي من رب السماوات غفران الذنوب واستئناف العمل.





أصبتُ في آخر يوم في المدينة المنوره بالانفلونزا، وعجبت لذلك خصوصاً وان جسمي كان حلبةً لابر التحصين التي لم تسمن ولم تغني من اصابتي بالانفلونزا مجددا، ولم يفك اللغز سوى الدكتور العراقي حيدر البياتي - وهو طبيب الحمله وكان لطيفاً للغايه، ما قصده مريض الا ورجع بأدوية ونصائح قيمه- حيثُ أخبرني الدكتور بوجود عدة انواع للانفلونزا وأنني حصنتُ ضد نوعين فقط. تواصلت معي الانفلونزا الى مكة المكرمه ، وكان ذلك من سوء طالع الاخ سعيد عبدالله العجمي، فقد كان يقابل سريري في مكة مباشرة، ولم يلبث الى أن أصبح هو الاخ مصاباً بها ولم تفلح كل الادوية التي أخذها في طرد الانفلونزا بعيداً عن جسمه، ويبدوا ان "فيروساتي" طويلة الامد خصوصاً ان لاحقت جسماً شديد الحساسية للانفلونزا كجسمه.





الى صعيد عرفه:



جاء يوم الثامن من عرفه، وقصدت الحرم في وقت الظهيره، حيث نزلت الامطارُ بغزارة، وكم كان الشعور جميلاً وانت تطوفُ حول البيت والامطار تنهمر عليك، وكم كنت اتمنى أن تكون مياه الامطار قد سحبت معها كل معصيه وذنب ارتكبته. وحان الليل وكنا بين ان نتوجه الى منى للمبيت فيها لما في ذلك من استحباب او التوجه الى عرفه حتى لا تقطع الامطار والوديان طريقنا خصوصاً وان الجو كان متقلباً، فلجئنا لخيار المبيت في عرفه، وتوجهنا الى حدود مكة القديمه للاحرام من هناك. كان من سوء طالعنا ان الخيام كانت مبللةً بمياه الامطار، فلا سماء تقلنا ولا ارض، فافترشنا شنط النوم (Sleeping bags) وتكورنا فيها ولم يضايقنا سوى تواقيع البعوض على أيدينا في صبيحة اليوم التالي.



كان الشيخ محمد سعيد التتون يتولى مهمة الاشراف الديني في مكة المكرمه اضافة الى الشيخ ابراهيم نجف، وقد أمنا في صلاة الظهرين بعد ان افسح لنا المجال للاتيان بصلاة جعفر الطيار، ثم حان وقت عروج الارواح في الحج الاكبر (عرفه) ولم نجد براقاً أسرع من دعاء الحسين عليه السلام في يوم عرفه، حيثُ أم اسماعنا الرادودين حسن الناصري ونزار الدرازي بعد وقفنا تحت السماء كما هو الاستحباب. كانت حنجرةُ الرادود حسن الناصري شجيةً بما يكفي ليجعلك تعيش مضامين الدعاء كلها، وكان يستدر الدمعة من جوف الصلعه دون اي مشقه ولذا لم يكن غريباً ان ترى الاعين تفيض بالدمع طوال فترة الدعاء رغم طوله. لم ننس يومها ان نغتسل قبيل الزوال لما في ذلك من استحباب مؤكد.



الى المزدلفه ومنى:



تهيئنا قبيل غروب شمس التاسع للتوجه للمزدلفه للمبيت فيها، ولم يضايقنا سوى الازدحام الشديد فيها لدرجة اننا وصلنا المزدلفه في حدود الساعه الحادية عشر رغم قربها من عرفه، ولعل علة ذلك هو انها المكان الوحيد الذي يلتقي فيها كل الحجاج في مكانٍ واحد ووقت واحد. شرعت بنية المبيت في المزدلفه والصلاة فور وصولي، ومن ثم توجهت لالتقاط الجمرات -لرجم الشيطان- جمعتُ الكثير ولكنها كانت كبيرة الى خدٍ ما كما شخصها الاخ سعيد الرواحي فنمت حتى الساعة الثالثه ثم استيقضت لالتقاط الجمرات فكانت هذه المره صغيرة الحجم مستوفية الشروط، من النوع الملون، وكنتُ استعين قبل كل مرحلة بكتاب المختصر الميسر في مسائل الحج والعمره فكان خير معين في رحلتي تلك. قارب الفجر على الظهور وتهيأنا لنية الوقوف في المزدلفه والتي تكون بين الطلوعين (طلوع الفجر حتى طلوع الشمس) لنلتحق بالجماهير المؤمنه التي قصدت منى لرمي الجمرات، حيث لم نصادف زحمة تذكر، خصوصاً مع وجود اربعة طوابق لرمي الجمرات، فرمينا الجمرات ومن ثم جائنا الاتصال يفيد بأنه تم ذبح الهدي بالنيابة عنا، وباشرنا بالتقصير، وعدنا بعدها الى السكن في العزيزية لنرتاح لبعض الوقت قبل ان نتوجه مجددا لنبيت النصف الاول في منى. كانت الايام الاخيرة ابتداء من ليلة التاسع من ذي حجه وحتى الثاني عشر منهكة لبدني لاستصحابي المرض وقلة النوم. قصدت مقر الكادر الصحي في المخيم العماني لاشتداد المرض بي وكان هناك أطباء في غاية اللطف والوداعه وكانوا كرماء بالادويه :)



لم تكن المشكله في الدواء ولكنها كانت مشكلتي اذ اني لم اخلد للراحه فور تناولي للدواء، ولذا فلم تكن الادويةُ ناجعةً في جسمي. ولذا فقد قضيتُ ايام الحج الكبرى والمرضُ يطوقني ككفٍ أحكمت الخناق على رقبتي لخنقي. كانت لقلة النوم اثرها البالغ اذ اننا كنا نتردد بين خيام منى والجمرات وسكن العزيزية وكانت المشي في أحيان كثر وسيلة نقلنا وحلنا وترحالنا.

استوقفني في الطواف الاخير مشهدين:

الاول: عندما كنت أطوفُ حول الكعبه كانت زوجتي امامي وكنتُ أسيجها بيدي كي لا ينال منها التدافع دون أن اتسبب في اذية اي من الحجاج، فاستغربت من أحدهم وقد أخ يصرخ استغفر ربك فما هكذا كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- يطوف ولا الصحابه، ولا ادري هل رأى طوافهم فحكم بالخلل في طوافي ام وجد اشكالاً شرعياً في ذلك، رغم اني كنت احميها من التدافع دون ان اتسبب في اذية الاخرين خصوصاً وان اذية الحجاج في الطواف لا تجوز، تجاهلتهُ ليقيني بعدم وجود اشكال فيما كنت افعله.

الثاني: كنت اردد الصلوات على النبي واله بصيغة (اللهم صل على محمد وآل محمد) في اثناء السعي فسمعتُ أحدهم من خلفي -وكان مصري الجنسيه- يصرخ في قائلاً (يا راجل .. محمد ده مين؟ .. آوول "قول" اللهم صل على سيدنا محمد)، ولم التفت لما قاله لانشغالي بالسعي ولم اشأ ان احول السعي الى جدال عقائدي حيثُ اني لم ارى اي اشكال في عبارتي للاعتبارات التاليه:

1- قولي (مُحَمَد) تختلف عن مخاطبة الشخص العادي باسم محمد لاننا لا نضع الحركه في المخاطب العادي، فبالتالي الامر جلي والمخاطب نبي الامه صلى الله عليه وآله وسلم.

2- في الصلوات الابراهيميه وهي التي جاءت بها السنه نقول (اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على ابراهيم وآل ابراهيم ...) دون ضرورة لاضافة سيدنا.

3- في عبارة الرجل التصحيحيه، ذكر الرجل النبي صلى الله عليه واله ، واستثنى آله والصلاةُ التي يستثنى الال منها- كما ورد في الاحاديث النبويه - هي صلاةٌ بتراء.

طوال هذه الفتره، كان الحنينُ الى كرار يغلبُ علي وعلى والدته وكان حاضراً معنا طول الوقت، الا انه كان يبخلُ علينا بصوته اذا اتصلنا به، وجل ما كان يفعلهُ هو الابتسام لمن امامه. التفتُ في احدى المرات وقد انتهينا من رمي الجمرات الى وجه أم كرار الغاليه، فاذا عيناها مغرورقةً بالدموع، فسألتها عن السبب فأخبرتني بأن شوقها لكرار قد هاج. حاول طمأنتها وبث السكينة الى قلبها، ولكن بقية النسوة في الحمله التفتن وقلن ما بها؟ قلتُ: كرار! قلن : خير .. وش فيه ؟ (بلهجة فزعٍ وجزع)، فقلتُ لهن: الحمد لله .. لكن شوقها قد زاد .. فحاولت ان ازيح غمامة الحزن عن وجه ام كرار واقلب المشهد الى مشهدٍ مفرح ، فقلت - بصوت النعي الحسين- ملتفتاً الى من التفت من النساء ..(تخيلوا اولادكن الان .. كيف حالهم ..) فانقلبت الدمعة الى ضحكه في وجه ام كرار.



محطة العوده:

فور انهائنا لرمي جملة العقبه في يوم الثاني عشر من ذي الحجه، عزمتُ على التوجه الى البيت الحرام للتودع منه وكان الوقت وقت الظهر، فاستقليتُ وزوجتي وسعيد عبدالله سيارة الاجره، طلب صاحبها مبلغاً وقدرهُ 60 ريالاً سعودياً ليوصلنا ولم نكن في مزاج للتفاوض حول السعر ليقيننا ان الاسعار تقفز هذه القفزات في هذه الايام. فوجئنا بعد تحركنا اننا قد علقنا في زحمةً لا تنتهي حتى المغرب رغم محاولات السائق اختصار الطريق، فطلبنا منه أخذنا الى السكن مجدداً كي لا نكون سبباً في تأخير الحمله، الا انه ادخلنا في زحمة جديده، فطلبنا منه التوقف وقفلنا عائدين مشياً عن الاقدام.


طوال فترة الحج، لم انشغل ولا زوجتي بملاحقة الاسواق كي لا يعكر على شعيرة الحج ولو على المستوى المعنوي، وفي حين كانت قوافل (الزواره) تزاحم الغرف، كانت رواحلنا خاليه، ولم اجد سوى اليوم الاخير متنفساً لي في سويعاتٍ بقين قبل تحرك الحافله لشراء بعض الهدايا التذكاريه. ودعنا الحرم المكي من بعد، والامل يحدونا للعودةِ مجدداً الى الديار المقدسه في الاعوام القادمه باذن الله.